افتتح مقالتي هذه من منطلق واضح لا ريب فيه يؤكد لنا أننا كلنا خطاؤون، فإذا قلنا فقد نخطئ، وإذا كتبنا فقد نخطئ، وإذا عملنا فقد نخطئ، وما دام الأمر كذلك فيجب أن نبقى مُتَحلين برحابة الصدر الواسع لكل من قد ينتقد أخطاءنا، ويجب أن نفرح بذلك، ونرحب بذلك، وهذا الفاروق عمر رضي الله عنه قد قال في هذا الصدد: (رحم الله إمرئ أهدى إليّ عيوبي)، فقد اعتبر الفاروق عمر رضي الله عنه أن كل من انتقده، فقد أهدى إليه هدية، ولأنه أهدى إليه هدية، فقد دعا له الفاروق عمر بن الخطاب بالرحمة. وعلى هذا الأساس يحب على الأشخاص الذين يشغلون مناصب عامة أن يوطنوا أنفسهم على نقد الآخرين لهم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يجب على الناقد أن يتحلى بأدب النقد إذا انتقد بلسانه أو قلمه، ولأهمية التحلي بأدب النقد في هذه الأيام بخاصة، فإني أسجل هذه النصائح لكل ناقد سواء انتقد بلسانه أو بقلمه:
1- الواجب أن نحافظ على لغة النقد صافية، وبعيدة كل البعد عن منزلق التكفير أو التخوين أو التجريح.
2- أن نبتغي من وراء النقد التصحيح، وتنبيه من ننتقده على الخطأ الذي وقع فيه، طامعين منه أن يصغي لنقدنا جيدا، ثم أن يُعيد النظر في خطأه، ثم أن يتراجع عنه، وما أعظم قول الفاروق رضي الله عنه: (العدول إلى الحق خير من التمادي في الباطل)، وبناء عليه أقول: العدول إلى الصواب خير من التمادي في الخطأ، والنهوض بعد كبوة خير من التمادي في التعثر.
3- إن من الشجاعة أن يصغي صاحب الخطأ إلى من قد ينتقده، والأشجع من ذلك أن يعدل عن خطأه، بعيدا عن البحث عن تبرير خطأه، أو تأويل مستهجن لخطأه، وكأن كل جماهيرنا- وكلها مخضرمة سياسيا- لم تفهم ماذا قال أو ماذا كتب، وعندها سيقع في خطأ الاستخفاف بهذه الجماهير، وهو خطأ أشد من خطأه الأول الذي انتقدوه عليه.
4- الواجب أن ننتقد الشخص المخطئ الذي صدر منه الخطأ فقط، لا أن نعمم خطأه على غيره، وعندها سنعمم نقدنا على غيره، فهو الذي أخطأ، ومن الحق أن ننتقده، وقد يكون من الواجب أن ننتقده، ولكن بشرط أن ننتقده هو فقط، لأنه هو الذي أخطأ، وليس كل حركته أو قائمته التي ينتمي إليها، وإلى جانب ذلك من حقنا أن نطالب حركته أو قائمته أن يصرحوا علانية أنهم يرفضون خطأه، ويؤكدون أنه لا يمثلهم، وهكذا لا تضيع الأمور، ولا تختلط الأوراق، ويبقى المخطئ هو من يتحمل تبعة خطأه، وعساه أن يُعيد النظر في خطأه وأن يعدل عنه. وليس من الحكمة ولا من الفائدة ولا من المصلحة، أن ننظر إلى خطأ الفرد، وكأنه خطأ كل حركته أو قائمته التي ينتمي إليها، ثم أن نوجه نقدنا لهم كلهم، وكأنهم كلهم قد ارتكبوا هذا الخطأ أو ذاك.
5- يجب أن نعلم أننا لا ننتقد من أجل ننتقد، فإن النقد من أجل النقد موقف عقيم، والمطلوب أن ننتقد صاحب الخطأ طامعين أن ننبهه على خطأه، ثم طامعين أن يتوقف خطأه, ثم طامعين أن يصحح خطأه , ثم طامعين أن ينتقل من دائرة الخطأ إلى دائرة الصواب التي تجمع كل جماهيرنا وتحفظ علينا كل ثوابتنا الإسلامية العروبية الفلسطينية.
6- إن عظمة منهج التغيير الذي نجده في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أنه لم يقف عند حد الكشف لأهل الباطل عن باطلهم، ولا عند حد دمغهم بهذا الباطل، بل بذل كل عمره طامعا أن يقف أهل الباطل على حقيقة باطلهم، ثم أن يتبرؤوا من هذا الباطل، ثم أن ينضموا إلى قافلة الحق الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، ولذلك صبر على منهج الحوار معهم، وكانوا كلما آذوه بألسنتهم أو بأيديهم، كان يرد عليهم قائلا: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، ففي هذا القول النبوي العظيم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا لهم بالمغفرة وهم الذين آذوه، وفي هذا القول النبوي العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقومي) أي أكد على دوام صلته بهم. ولم يعلن القطيعة بينه وبينهم، وفي هذا القول النبوي العظيم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإنهم لا يعلمون) أي كان يلتمس لهم العذر، عندما آذوه، وواصلوا إيذاءه، وأصروا على باطلهم، وحاربوا دعوة الحق التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
7- وهكذا كان منهج التغيير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منهج علاج للنفوس، ومنهج صياغة لها من جديد، ثم منهج صناعة لحياة جديدة بهذه النفوس بعد أن تستجيب لدعوة الحق، ثم منهج صناعة لأمة جديدة، ذات ثوابت وقيم وانتماء وهوية وسلوك نابعة من دعوة الحق التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
8- وهكذا أفلح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونجح بتوفيق الله تعالى أن ينقل عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أداة قمع وتنكيل بأتباع دعوة الحق، إلى الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي فرّق الله تعالى به بين الحق والباطل، ومن خالد بن الوليد رضي الله عنه سيف الكفر إلى سيف الله المسلول، ومن أبي سفيان رضي الله عنه داهية الباطل إلى نصير الحق، ومن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه فارس الجاهلية إلى فارس الإسلام، وهكذا تم تعديل خط الانحراف في الحياة والمجتمع والتاريخ والحاضر والمستقبل.
9- قد يقول قائل: أنا لا أستطيع أن أتحلى بهذا المنهج النبوي عندما أنتقد، ولا زلت أنتقد من أجل النقد، أو بدافع المناكفة، لمثل هذا القائل أذكره بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت).
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48