وأذكر بداية أن هذه التقوُّلات ليست جديدة في واقعنا الفلسطيني، فمنذ الاحتلال عام 1948 قيل في هذا الكثير، وحددت مواعيد، وجرى تعديلها وتأجيلها وصياغتها من جديد. قيل ستبقى اسرائيل سبعة أسابيع أو سبعة أشهر أو سبعة أعوام وقيل في سنة معينة من 2002 الى 2006 ويقال العام 2022 وأيضا 2028 ، وقيل عن القيامة "تألّف ولا تألّفان" وربما قيل غير ذلك مما لم يبلغنا.
إذا عدنا للسؤال فلا نجد في القران الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة نصا صريحا أو مؤوّلا، يمكن أن نستند إليه لتأكيد هذا التقولات او الظنون، بل سنجد القران الكريم يذم طريقة التفكير هذه، ويبطل هذا التوجه من أساسه، ومن جهة اخرى سنجد أن القران الكريم يستفيض في الحديث عن السُّنن العامة التي تحكم حركة التدافع بين الناس وتداول الايام وتغيير الاحوال، وكلُّها سُنن كونية طبيعية، تلتزم قانون السببية في إطارها العام، وتتحد مع سنن التمكين والنصر والتداول والتغيير والابتلاء الربانية، لتكوِّنا معا القانون العام الذي يحكم حركة التدافع الانساني.
أما هذه التقوّلات فتسمى في المصطلح القراني "الرجم بالغيب أو القذف بالغيب"، وهو في التعريف: تقوّل بالظن او بما لا يعلم في موضوعات الغيب، من غير دليل صريح من الوحي، او استنباط صحيح يستند الى قواعد الاستدلال وضوابطه في فهم وتدبر الخطاب في القران الكريم والسنة الشريفة.
وسُمِّي رجما أو قذفا تشبيها لمن يرمي بحجره الى هدف بعيد المنال، فلا يصيب هدفه الا نادرا، وفي الغالب يخطئ المرمى. أما الغيب كمصطلح فيأخذ معان عدة في القران الكريم، يدخل فيها ما غاب عنا من اخبار الماضي والمستقبل ويدخل فيها ما غاب عن حواسنا ووسائل ادراكنا في حاضرنا، وكلامنا هنا سيتركز على الغيب المتعلق بأخبار المستقبل.
وسأستعرض هنا المنهج القرآني في مسألة التعامل مع "علم الغيب" من خلال استقراء للآيات القرانية التي حددت معالم العقيدة الاسلامية في هذا المجال ، حتى نعلم ان التعاطي مع هكذا مسائل مخالف لقواعد الشرع الحنيف ، وفيه تجاوز لكل ما تعلمناه من ثوابت العقيدة وأصول الفقه ومقاصد الشريعة، فضلا عن سؤالنا الدائم ، ما الداعي للخوض في هكذا أمور، والظهور بمظهر العاجز عن الاستجابة لتحديات العصر، فيلجأ الى الظنون والاحلام وتفسير الرؤى، وافتراض علاقات بين مقدمات وافتراضات ومآلات ما انزل الله بها من سلطان، وبالتالي وهو الاخطر تفريغ مفهوم الايمان بالله عالما بالغيب وعلّاما للغيوب من مضمونه التوحيدي.
يقرر القرآن الكريم في آيات كثيرة متعددة أن "عالِمَ الغيب والشهادة، وعلَّامَ الغيوب" هو الله سبحانه وتعالى، وهذا الاسم من أسماء الله الحسنى الزائدة على الاسماء الواردة في حديث التسعة والتسعين اسما. من هذه الآيات الكريمة قوله تعالى: "هو الله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم"، ومنها : " الم يعلموا ان الله يعلم سرهم ونجواهم وان الله علام الغيوب" ، ومنها قوله تعالى : "يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا اجبتم قالوا لا علم لنا انك انت علام الغيوب". والايات في هذا الباب كثيرة وتبين أن علم الغيب من خصوصيات الله تعالى والايمان بها والتسليم فيها من كمالات التوحيد.
يقرر القرانُ الكريم أيضا القاعدةَ العامة: أنه لا يعلم الغيب الا الله سبحانه وتعالى، فلا مَلَكً منزلٌ ولا نبيًّ مرسل ولا انس او جانّ يصح أن يدعي علما في الغيب، فضلا عن أن يصل اليه من غير طريق الوحي الصحيح. وقد جاء في ذلك آيات كثيرة متعددة تبين القصر والحصر وتنفي علم الغيب من غير طريق الوحي، قال الله تعالى: "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو" ، وقال تعالى: " ويقولون لولا انزل عليه اية من ربه فقل انما الغيب لله فانتظروا اني معكم من المنتظرين" ، والاية الجامعة في قوله تعالى : "قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب الا الله وما يشعرون ايان يبعثون" ،
يقرر القرآن الكريم كذلك أن علم الغيب اطلاعا وتبليغا، ليس من وظائف الرسل المبلِّغين عن ربهم، ولا من خصائص الرسالات كقاعدة عامة، الا في استثناءات محدودة جدا لها حكمة بالغة سآتي على ذكرها في موضعه. وقد ورد في هذا المعنى قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : " قل لا اقول لكم عندي خزائن الله، ولا اعلم الغيب، ولا اقول لكم اني ملك، ان اتبع الا ما يوحى الي، قل هل يستوي الاعمى والبصير افلا تتفكرون" ، ومنها قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم " قل لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ما شاء الله ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ان انا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون" ، ومنها ما جاء على لسان نوح عليه السلام في قوله تعالى: " ولا اقول لكم عندي خزائن الله ولا اعلم الغيب ولا اقول اني ملك "، وآية أخرى تخص الجنَّ في قوله تعالى :" فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته الا دابة الارض تأكل مِنسأته فلما خر تبينت الجن ان لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين".
يقرر القران الكريم استثناء واحدا لمعرفة علم الغيب فيقول تعالى : "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ، إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ، لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا". وقوله تعالى: " مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ" .
مرة أخرى تقرر الايات الكريمة القاعدة العامة وهي امتناع معرفة الغيب الا بطريق الوحي المباشر عن طريق الرسل، والمتدبر للقران الكريم يدرك ان مساحة كشف الغيب في موضوع انباء المستقبل بالذات هي الاضيق من بين ما جاء في القران الكريم من أنواع أنباء الغيب، وما هي الا استثناء لقاعدة راسخة جاءت في عشرات الايات القرانية.
من أمثلة أنباء الغيب عموما في القران الكريم ما أوحاه الله الى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كقصص الانبياء والرسل والاقوام البائدة كعاد وثمود وقوم نوح ولوط. ومن أمثلة ذلك أخبار الساعة وأشراطها والقيامة وأهوالها والجنة ونعيمها والنار وجحيمها. ومن امثلة ذلك المؤيِّدات العلمية الكونية التي جاءت في القران الكريم، كاطوار خلق الانسان والكون وغيرها من الظواهر والحقائق الكونية. ومن امثلة ذلك اخبار المستقبل كنبأ انتصار الروم على الفرس بعد هزيمتهم الاولى في بضع سنين، وانتصار المؤمنين في خيبر وفتح مكة وغيرها. ومن امثلة ذلك اطلاع النبي على مصير بعض المشركين كأبي لهب وغيره من صناديد قريش، ومعرفته صلى الله عليه وسلم لأسماء المنافقين في المدينة وهذا ما اشارت اليه الآية من سورة آل عمران الانفة الذكر.
أما ما جاء في الحديث الشريف فما صح منه فهو يركز على علامات الساعة واحوال الناس من غير تفصيل أحداث او تحديد زمن، وفائدته تنبيه الغافلين والمعرضين الا يقعوا في محظورات ذلك الزمان ، وأما ما جاء في وصف احداث بعينها، فما وصلنا من صحيح الرواية فيه قليل بالنسبة لما علمه الصحابة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي يبدو ان الصحابة الكرام علموا انهم غير مكلفين بتبليغ ما علموه من انباء الغيب التي حدثهم بها النبي صلى الله عليه وسلم وقد صرحوا بذلك في أكثر من مقام، وقد امتنع حذيفة بن اليمان وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم عن تحديث الناس بها، بخلاف جهدهم الكبير في تبليغ القران الكريم والسنة الشريفة وتعليمها للناس حيث لم يكتموا شيئا من العلم الذي تعلموه من رسول الله.
إن أحد أهم الاعتبارات التي يقيمها أصحاب هذه التقولات أنهم يريدون ان يبثوا الامل في نفوس الناس أن ظلم الظالم المحتل لن يطول، وفي الحقيقة أنه يجب مراجعة هذا الادعاء، هل فعلا يبث الامل ام يزرع السلبية والعجز وانتظار الفرج بترك الوسائل. والاهم من ذلك هل نفتقد فعلا للمؤيدات الشرعية في القران والسنة ودروس التاريخ أن دولة الظلم مهما كانت الى زوال وان الله ناصر المظلمين طال الزمن او قصر؟.
من مخاطر هذه التقولات ايضا أن بعض من لا علم لهم بالشريعة بمصدرَيها يظن انها مستقاة من كتاب الله وسنة رسوله وبالتالي فعندما تمر الايام مسرعة نضطر ان نقف مدافعين ومبررين ومعدلين لكلام في اساسه ليس من كلام ربنا ولا من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم .
قال تعالى " وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا "
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48