كيف وصلت الجريمة في مجتمعنا العربي إلى ما وصلت إليه، ولماذا؟ وهل من حلول لمواجهتها؟
يواجه مجتمعنا في الداخل آفة العنف المنظّم وبقوّة منذ بداية القرن الواحد والعشرين. ونسبة القتلى في مؤشّر تصاعدي حتى وصل ذروته عام 2021؛ ومع بدايات العام 2022 بدأ وللمرّة الأولى في الانخفاض بعد خمسة عشر عامًا من الارتفاع، ثمّ عاود الارتفاع من جديد مع نهاية العام 2022 وبداية عام 2023.
في هذه المقالة لن تقرأوا عن نظريّات المؤامرة، ولا عن مخططات "الدولة العميقة" في إسرائيل لترويج العنف وفتح المجال لعصابات الإجرام لترتع في البلدات العربية بعد هبّة القدس والأقصى، فلست من أصحاب القدرات الخارقة في الولوج إلى سراديب المخابرات والمقرّات السرية، لأجلب منها الأدلة الواضحة للمخططات، ولا بصدد تلقّف جمل مقتبسة من تصريحات لقياديين في الشرطة، يخبروننا أنّ قادة عصابات الإجرام يعملون مع المخابرات، لأبنيَ منها نظرية كاملة تثبت أنّ ما يحدث اليوم في مجتمعنا هو مخطط لدولة إسرائيل وحكوماتها.
ما ستقرأونه في هذه المقالة، هو تحليل للأسباب التي أودت بمجتمعنا إلى ما هو عليه، وما هو التصوّر لمكافحة هذه الآفة، وكيف يمكن القضاء عليها. والأفكار المطروحة ذكرتها في مقالات متعددة على شبكات التواصل منذ سنوات، ولكن وللمرة الأولى أقوم بترتيبها في إطار سردي واحد مقتضب، أحاول من خلاله تجميع الأفكار قدر الإمكان، ليتاح للقارئ تكوين تصوّر عما حدث ويحدث.
من الحمائلية والقبلية إلى قلب الحداثة
كان مجتمعنا العربي في معظمه – أو ما بقي منه – عند قيام دولة إسرائيل مجتمعًا فلاحيًّا وبدويًّا في نمط المعيشة، بعد أن هُجّرت معظم المدن الكبرى في الداخل.
في نمط المعيشة البدوية كان للعشائرية والقبلية سلطة على الفرد، وكذلك في قرى الفلاحة، حيث ساد النمط الحمائلي للمعيشة، فكانت سلطة الحمولة، تهذّب تصرفات الفرد، وتحكم أنماط تفكيره ومعيشته. وكانت للقبيلة أو للحمولة سلطة على الفرد، حيث كان لها دور في حل النزاعات بين أفرادها، أو بين أفراد من عشائر مختلفة، أو بين العشائر نفسها، وفق منظومة متّبعة ومتداولة في عادات المجتمع وثقافته.
في محصلة كل ذلك، طغت الروح القبلية والحمائلية، أو باختصار، الروح الجماعية على الروح الفردية (على عكس المعيشة في المدن، في السابق والحاضر، حيث تطغى الفردية على الجماعية).
وجاءت الحداثة، ودخل التطور الاقتصادي والتكنولوجي كل البيوت، وتحوّل اقتصاد المجتمع من الفلاحة وتربية المواشي إلى سوق العمل والمهن بشتّى أنواعها، وكانت للقفزة الاقتصادية والتكنولوجية في الدولة نفسها تأثيرها الواضح على المجتمع العربي أيضًا.
بقيت القرى العربية في مكانها، لكنّ الحياة المدنية والحداثة غزتها وزحفت إليها وطغت بنمطها على المجتمع، فتلاشت إلى حد كبير الفروقات والتباينات بين أنماط الحياة المختلفة، وتحوّلت كلّها إلى حياة المدنية، من حيث الاكتفاء والرفاهية.
أدّى دخول الحداثة بنمطها إلى إضعاف سلطة القبيلة والحمولة، وما عادت هذه المؤسسات بنفس الهيبة والسلطة التي تمتعت بها في السابق، وانحسرت مكانتها إلى وضعية لن أتوسع في الخوض فيها في هذه المقالة.
الدولة الحديثة ومؤسساتها
في الدولة الحديثة، كما في المدن والحضارات المختلفة على مدى التاريخ المكتوب والمعروف، تطوّرت مؤسسات مختلفة لحل النزاعات وفرض الهيمنة وإيتاء الحقوق بين الأفراد، كمؤسسة القضاء والشرطة، وفيما بعد دائرة الإجراء ومراكز الجباية. ومع توغّل الدولة في حياة الفرد، تعقّدت هذه المؤسّسات وتطوّرت وشكلت أهم المراكز لحلّ النزاعات والخصومات في الدولة الحديثة.
دخلت الحداثة والحياة المدنية إلى المجتمع العربي الحديث، لكن لم تدخل معها مؤسّسات الدولة المختلفة، ولم يكن لها حضور قوي يمكن أن يملأ الفراغ الذي تركه انحسار القبيلة والحمولة. كما أعاقت أنماط أخرى في سلوكيات المجتمع وثقافته -كما الوضع السياسي لعرب الداخل- هيمنة مؤسّسات الدولة، إضافة إلى إهمال الحكومات المتعاقبة لهذا الأمر.
السوق والسوق السوداء والعالم السفليّ
يتيح اقتصاد السوق الرأسمالي الحديث للفرد أن يخطو خطوات بعيدة المدى نحو المستقبل، سواءً على المستوى الفردي أو على مستوى أسرته، فيمكنه امتلاك الأراضي رغم عدم توفّر رأس المال الكامل لقيمة الأرض لديه، كما يمكنه من شراء وسائل نقل حديثة الطراز دون أن يمتلك قيمتها الكاملة، بل يكتفي بامتلاك ربع القيمة، أو حتى أقل، أو دون أي رأس مالٍ حتى، إذا ما أظهر لشركات السيارات والبنوك قدرات اقتصادية كامنة وضمانات، تبدي لهذه المؤسسات، أنّ هذا الشخص قادر اقتصاديًّا على السداد.
لكن بالمقابل، ظلّ المجتمع العربي في الداخل يمارس سلوكيات تعيق توغّل الدولة في حياة الفرد (لأسباب مختلفة أيضًا يمكن التوسع فيها في مقالة أخرى، وهي مجال أوسع للبحث)، يمكن تلخيصها في جملة واحدة: "العيش خارج نطاق الرادار"، كتوفير الأموال خارج الحسابات البنكية، وتملُّك الأراضي دون العمل على تسجيلها وإنهاء معاملاتها، وعدم التناسق بين المعاشات في قسائم الرواتب (التلوشات) وبين المعاش الحقيقي الذي يتقاضاه العامل العربي (المعاش الحقيقي أعلى من المعاش المسجّل في قسائم الرواتب)، والعمل على إبقاء أجزاء كبيرة من مدخولات المصالح التجارية العربية، خارج رقابة الضريبة.
هذه السلوكيات، إضافة إلى إهمال الدولة من الأساس، أدّت إلى تطوير منظومة سوق تميّز بها المجتمع العربي. فالسوق تتطوّر والنمو الاقتصادي في ارتفاع، ومقابل السوق الظاهرة في العلن، هناك سوقٌ خارج نطاق الرادار، تزدهر وتسعى للتطور بالتوازي مع السوق العلنية.
لكن ما هو خارج نطاق الرادار، يبقى خارج نطاق الرادار، فيصعب في منظومة السوق غير المعلنة، أو غير المصرّح عنها، أو غير القانونية، أو السوق البديلة، أو ما يسمى بعرفنا بالسوق السوداء، أخذ الحقوق وحلّ النزاعات والخصومات من خلال مؤسسات الدولة الحديثة. كما يصعب على من يعيش خارج نطاق الرادار، وليس بإمكانه إبراز قوّته الاقتصادية الكامنة، أن يتوجّه للبنوك، وعليه التوجّه للبدائل المقابلة في الأسواق البديلة، أو في حال مواجهة الصعوبات في السوق العلنية، تفتح السوق البديلة أحضانها وتعرض مقدّراتها في عالمٍ موازٍ (كما يطلق هذا التعبير باللغة العبرية، ويسمي هذه المنظومة بالعالم السفلي).
فراغ يجب ملؤه
إنّ السلوكيات النمطية التي ذُكرت، إضافة إلى عدم حضور الدولة كما يجب بمؤسساتها في المجتمع العربي، أدى بطبيعة الأمر إلى وجودٍ ضعيف لمؤسسات حل النزاعات والخصومات في الدولة الحديثة، مقابل انتعاش السوق البديلة، فهناك حاجة لفرض النظام والسلطة، وفضّ الخصومات وانتزاع الحقوق في هذه السوق، أو في هذا العالم الموازي، وهذا الفراغ يجب ملؤه.
إن لم تكن هناك مؤسسات تابعة للدولة قادرة على فرض النظام والأمن وانتزاع الحقوق، ومع غياب المؤسسات الاجتماعية القديمة – القبيلة والحمولة – وانحسار دورها، تتشكّل في هذا الحيز مؤسسات أخرى تسعى لملء هذا الفراغ، لتفرض حضورها وتعمل على بسط الهيمنة، في مكان يضعف فيه وجود السلطة. فالنزاعات والخصومات في المجتمعات البشرية قائمة ما دامت المجتمعات البشرية قائمة. وما دام وجودها قائمًا مع وجود المجتمع، سيحتاج المجتمع لمن يسعى لحلها، وإن لم تسعَ الدولة لذلك من خلال فرض سلطتها، سيأتي من يفرض سلطته في حسم النزاعات وفضّها، وحتى في حلّها عن طريق الإصلاح، وعندها لن تستغرب وجود تنظيمات الإجرام في جاهات الصلح!
الخطوات السابقة واللاحقة في مكافحة الإجرام المنظم
من باب التنظير، لن يتمكن مجتمعنا العربي من عبور هذه المرحلة المؤلمة إلا بوجهتين: الأولى بالعودة إلى إحياء سلطة القبيلة والحمولة، لكي تستعيد هذه المؤسسات سطوتها وقوتها وحضورها بين الناس؛ والثانية: العمل على حضور الدولة بمؤسساتها في المجتمع العربي.
أمّا الوجهة الأولى، فهي تنظيريّة وخياليّة لن تتحقق ولا يمكن إخراجها إلى حيّز الواقع. وأمّا الثانية فهي الحل الوحيد والجدّي في القضاء على الجريمة.
بدأت الخطوات الجديّة لمكافحة الإجرام المنظّم بلجنة برلمانية برئاسة د. منصور عباس، والتي قامت بدراسة هذا الموضوع، وجاءت بتصور وخطة لمكافحة الجريمة عُرضت على الحكومة عام 2020. أقرّت حكومة نتنياهو السابقة جزءًا بسيطًا منها، وبعدها جاءت حكومة بنيت-لابيد وأقرّت أجزاءً كبيرة منها، وبدأت خطوات جدّيّة على أرض الواقع، كانت نتيجتها ولأوّل مرّة تحوّل في دالّة مستوى الجريمة نحو الانخفاض.
فقط من خلال حضور مؤسسات الدولة، يمكن القضاء على الإجرام المنظم. على المدى القريب، من خلال الضغط بسياسات حكومية عليا على أجهزة حفظ الأمن والنظام، وتزويدها بالموارد البشرية والإمكانيات اللازمة من خلال الميزانيات، وهذا يتم بالتأثير المباشر على صنع القرار في الحكومة.
والخلاصة، القضاء على الجريمة منوط بتفعيل السياسات العليا في الحكومة، وتفعيل السياسات العليا في الحكومة لا ولن يتم إلّا من خلال وجود عربي فاعل ومؤثر في الحكومة، وهذا ما أثبتته تجربة الموحدة في حكومة التغيير. وعلى المدى البعيد، المهمة تأخذ أبعادًا أكبر، من خلال دعم مؤسسات الرفاه الاجتماعي والتربية والتعليم في المجتمع العربي، إضافة إلى تطوير الصناعة والتجارة ودعمها في المناطق العربية، وهذا أيضًا يتم بواسطة الخطط الاقتصادية التي أقرّتها الحكومة السابقة واستمراريتها وعدم تقويضها، وهذا للأسف ما لا يبدو مبشّرًا في ظل الحكومة الحالية.
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48
2024/10/10 18:36