يتحددُ موقفُ الناس من طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة وما يتفرع عنها من مسائل، بناءً على تصوراتهم العَقَديَّة والفكرية للدين وللسياسة، او بناءً على وعْيِ الناس للتجربة العملية لامتزاج الدين والسياسة وافتراقهما، او بناء على الافتراضيين معا.
في الافتراض الاول ينقسم الناس الى فريقين رئيسيين، فريق يتصور الدينَ نظامَ حياةٍ شاملا في الايمان والعبادة، والسياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والأخلاق، وهو يتصورُ ايضا أن السياسةٓ وضْعٌ يكون الانسان فيه اقربَ للصلاح وأبعد عن الفساد، وان السياسة كما هي جلب مصالح ودرء مفاسد هي كذلك التزامٌ اخلاقيٌ وهو قيمُ العدل والاحسان والرحمة والحريّة والكرامة.
اعتقد ان من كانت هذه تصوراته للدين وللسياسة فان جدلية الدين والسياسة عنده منعدمة، لان تصوره للسياسة انها الدين، وللدين انه السياسة ، اي هما شيء واحد بمسميين اثنين.
الفريق الثاني يتصور الدينَ شأناً شخصيا بين العبد وخالقه في الحد الاعلى(العلماني التقليدي)، او انه يتصور الدين هرطقات وخزعبلات في حده الأدنى ( اللا ديني او الملحد )، اما تصوره للسياسة، فهي فن الممكن وتحقيق المصالح، حتى ولو على حساب القيم والاخلاق.
اعتقد ان الدين والسياسة عند هذا الفريق لا يلتقيان ولا يمكن ان يلتقيا الا اذا كان الدين خاضعا، او اداة من ادوات السياسة، لانه يرى ان السياسة هي الاصل الوحيد الناظم للعلاقات والنظم السياسية والاجتماعية.
الافتراض الثاني يدّعي ان النماذج التاريخية او التجربة المعاصرة لامتزاج الدين والسياسة او افتراقهما، تلعب الدور الأكبر في تشكيل وعي ومواقف وقناعات غالبية الناس من طبيعة العلاقة بين الدين والسياسة، وسأضرب أمثلة تاريخية ومعاصرة .
لو سألت السواد الأعظم من المسلمين، هل ترضَون ان يكون نموذج الدولة النبوية في المدينة بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم او الدولة الراشدة متمثلة بخلافة ابي بكر وعمر وعثمان وعلي، هو نموذجكم لعلاقة الدين والسياسة؟ لقالوا لك انه النموذج الأكمل والأفضل، وذلك لتصديقهم العقدي انهم أمروا بالاتباع والاقتداء برسول الله وخلفائه الراشدين، ولقناعتهم ان الدولة النبوية والراشدة هي التطبيق الأمثل لشريعة الاسلام الحنيف .
ولو سألتهم هل يمثل نموذج داعش اليوم، خيارا معقولا ومقبولا لطبيعة العلاقة بين الدين والسياسة؟
لقالوا انه النموذج الاسوء الذي يشوه الدين ويفسد السياسة، فلا نريد سياسة تشوه الدين ولا تديّنا يفسد السياسة.
ولو قدمت لهم نموذجا آخر لبعض الأنظمة السياسية العربية كمصر والسعودية وإيران اليوم، والتي تسخر الدين لغايات السياسة والسلطة والنفوذ ، لقالوا لك نريد انعتاق الدين من السياسة؟ كما أرادوا انعتاق السياسة من الدين في نموذج داعش واخواتها.
الخّص مقولاتي بقاعدة في اصول الفقه وعلم المنطق تقول: " الحكم على الشيء فرع عن تصوره " ، بمعنى ان حكم الناس النهائي على العلاقة بين الدين والسياسة تأييدا او رفضا او تحفظا، ينبني على تصورهم وفهمهم لماهية الدين او للتدين كممارسة عملية بشرية للدين، او هما معا. وكذلك ينبني هذا الحكم على تصورهم للسياسة كنظرية او للحكم كممارسة سياسية عملية بشرية او هما معا.
كيف يمكن اذا ان نوفق بين فريقين متناقضين في ماهية العلاقة بين الدين والسياسة، وفي نفس الوقت يكوّنان مجتمعا واحدا ويعيشان في جغرافيا واحدة ؟
هذا هو التحدي الذي نحاول الإجابة عليه من خلال تجربتنا العملية وخطابنا الاسلامي الوطني في داخلنا الفلسطيني. وللكلام بقية.
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48
2024/10/10 18:36