الحق في الزواج وتكوين أسرة هو حق إنساني مشروع متأصل بكرامة كل فرد، يتجسد أول ما يتجسد بحرية الإنسان في اختيار شريك حياته الملائم، واختيار نمط الحياة الذي بموجبه يريد تأسيس حياته الزوجية والأسرية وذلك دون قيود دينية أو عرقية أو سياسية أو موروثات اجتماعية.
وقد حظي ذلك الحق منذ القدم باهتمام كبير من جانب الأنظمة الديمقراطية والعلمانية. وبموجب ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان عام 1948 تقرر أنّ " للرجل والمرأة متى أدركا سنّ البلوغ حق الزواج وتأسيس أسرة، دون قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين وهما متساويان في الحقوق عند الزواج وخلال قيامه ولدى انحلاله".
بداية وقبل الخوض وطرح المشكلة التي نريد التطرق اليها من خلال هذا المقال، لا بدّ لنا من لمحة تاريخية بخصوص أطر الزواج القانونية التي أتيحت في الدول الأوروبية وفي دول الشرق الأوسط وتغيرها مع مرور السنين تزامنا مع تقدم الفكر الليبرالي وزيادة الوعي والإدراك لحقوق الإنسان.
حتى عام 1792 كانت الزيجات في معظم الدول الأوروبية تقليدية، خاضعة لقيود دينية لا تتماشى مع مبادئ المساواة والحرية الفردية، تتم وفق مراسيم دينية كل على دينه أو طائفته. بعد الثورة الفرنسية، تم فصل الدين عن الدولة واصبح الزواج الديني اختياريا وثانويا في حين بات الزواج الملزم في الدولة مدنيا بمعزل عن المتطلبات والقيود الدينية، وذلك لضمان مبادئ الحرية والمساواة بين المواطنين.
لكنّ الأمر يختلف في معظم دول الشرق الأوسط ومن ضمنها دولة اسرائيل، حيث يخضع مجال الأحوال الشخصية منذ القدم ولغاية هذا اليوم للقوانين والشرائع الدينية التي تمس في الحريات الفردية ومبدأ المساواة.
وبتسليط الضوء على التشريع الإسرائيلي بالتحديد، نرى بأن في دولة اسرائيل لا يسمح بتسجيل اي زواج في سجلات وزارة الداخلية إلا بعد أن يكون الزوجان قد تزوجا وفق مراسيم دينية معترف بها من قبل المؤسسات الحكومية في البلاد وشريطة ان ينتمي كلا الزوجين للديانة نفسها أو أن يكونا قد تزوجا زواجا رسميا معترفا به خارج البلاد بغض النظران كان دينيا او مدنيا.
ومن الجدير ذكره، أنّ للمحاكم الدينية في اسرائيل الصلاحية الحصرية للبت في قضايا الزواج والطلاق، وفق الشريعة الدينية التي ينتمي اليها الزوجان، ووفق قوانين شرعت منذ آلاف السنين والتي غالبا ما تتعارض مع مبادئ المساواة والحرية ولا تتماشى مع متطلبات العصر. وتستقطب المحاكم الدينية في دولة اسرائيل صلاحيتها المذكورة بموجب قوانين سنتها سلطة الانتداب البريطاني خلال السنوات 1947-1922، والتي ما زالت سارية المفعول لغاية هذا اليوم.
انّ التوجه القانوني الراهن المعمول به في دولة اسرائيل بخصوص قضايا الزواج والطلاق يخضع لبعض الإشكالات وتسوده بعض العراقيل، كما سنوضح فيما يلي، الأمر الذي يشكل مسا فادحا على الحرية الفردية كحرية الديانة وحرية اختيار شريك الحياة وقد يقف عثرة امام تكوين اسرة كريمة بشكل حر وحضاري كما وقد يتنافى كليا مع قناعات الإنسان وما يؤمن به من مبادئ ليبرالية كالمساواة والحرية، دون المس بحرية الإنسان الذي تلائمه هذه القوانين وتتماشى مع نمط حياته، ونقول هذا لأننا نؤمن بالتالي ان الحرية الشخصية في هذا المجال هي حرية مقدسة ويجب ان تكون ملكا خاصا للشخص وليس فرضا عليه.
وفي دولة إسرائيل التي ترتكز على نظام ديمقراطي وتؤمن بمبادئ المساواة والحرية كما ورد في وثيقة الاستقلال وقانون اساس حرية الإنسان وكرامته، والذي هو بمثابة دستور في الدولة، نلاحظ انّ الممارسات القانونية الحالية بخصوص مواضيع الزواج والطلاق تتناقض كليا مع اسس ومبادئ النظام الديمقراطي ولا تتماشى مع تصريحات والتزام الدولة باحترام الحقوق الواردة في ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وملائمة قوانينها لتعليمات الميثاق. وإن اردنا بحث أسباب النهج القانوني المذكور، نرى أنها نابعة من توجهات سياسية دينية بحتة، تهدف الى الحفاظ على يهودية الدولة ومنع الشعب اليهودي من الزواج من غرباء غير اليهود، وهيمنة الفئات اليهودية المتدينة سياسيا.
ولكي يكون الأمر واضحا للقارئ فإننا سنورد هنا بعض الحالات التي تجسّد الخروقات الكبيرة التي تمس حرية الإنسان في الصميم والنابعة من التوجه القانوني المعمول به في دولة اسرائيل:-
1- العلمانيون الذين لا يريدون الزواج وفقا للقوانين الدينية للطائفة التي ينتمون اليها لا يستطيعون عقد زواج رسمي في البلاد.
2- الفئه الملحدة التي لا تؤمن بالله او تلك التي لا تنتمي لأي ديانة سماوية لا تستطيع عقد زواج رسمي في البلاد.
3- الزواج المختلط داخل دولة اسرائيل غير معترف به، الأمر الذي يتطلب من اي شخصين ينتميان لطوائف دينية مختلفة السفر الى خارج البلاد لعقد مثل هذا الزواج مما يكلفهما وقتا وتكاليفا باهظة، او التزام احد الزوجين تغيير مذهبه الديني والانتماء لديانة الزوج الآخر، وذلك ليس بالضرورة من منطلق ايمانه بالديانة الأخرى انما لأنه لا بديل لديه داخل حدود الدولة، مع التنويه بأن بعض التشريعات الدينية تتيح الزواج المختلط بحالات معينة، كزواج الرجل المسلم من امرأة تنتمي لأهل الكتاب بموجب الشريعة الإسلامية وزواج الرجل او المرأة الكاثوليكي/ة بغير الكاثوليكي/ة بعد منح التفسيح من قبل الرئاسة الروحية للطائفة الكاثوليكية، وهذا يعني تدخل الدولة حتى في الحريات الدينية.
4- بموجب الشريعة اليهودية لا يسمح عقد زواج من ينتمي لسلالة "كوهين" من امرأة مطلقة، كما ولا يسمح ايضا بزواج اللقيط- اي الأبن الذي ولد من امرأة متزوجة خارج اطار الزوجية- إلا من لقيطة مثله، وبهذا لا تستطيع الفئة المذكورة عقد زواج رسمي في البلاد.
5- فئة المثليين، لا يسمح لها بالزواج بموجب جميع الديانات السماوية، وعليه لا تستطيع هذه الفئة عقد زواج رسمي معترف به داخل البلاد.
كل هذه الحالات التي اوردناها، تمثل خرقا فادحا لحرية الإنسان وحقه في المساواة وتتعارض مع معتقداته الخاصة وتشكل عبئا ثقيلا عليه، وقد أزفت الساعة ان يتم استحداث قوانين بديلة تخدم حرية الإنسان على جميع مشاربه، تتلاءم مع حقوق الإنسان المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان وتليق بدولة يسودها نظام ديمقراطي، إذ انّ القوانين الراهنة اضافة إلى كونها تمس بالحريات الفردية كما أسلفنا فإنها تمس ايضا بمبدأ المساواة، فهذه الفئات من المواطنين الذين تطرقنا اليهم آنفا يدفعون الضرائب ويقومون بواجباتهم إتجاه الدولة مثلهم مثل باقي المواطنين، أفليس من المجحف ان يتعرضوا الى هذا التمييز الغير انساني؟ وأليس من حقهم أن توفر لهم الدولة زواجا قانونيا داخل حدودها يكون اطارا رسميا لإقامة أسرة كريمة، يخدم معتقداتهم وقناعاتهم الفردية الخاصة، دون قيود دينية أو مذهبية تمس بحرياتهم الشخصية؟ وبذلك يتمتعون بجميع الحقوق المدنية الممنوحة للمتزوجين من قبل الدولة. إذ من البديهي أنه لا يمكن فرض معتقدات دينية على أحد، لأن الدين ايمان وقناعة فردية ينبع من الحرية الداخلية وليس فرضا ملزما.
وباعتقادنا انه وفي كل نظام ديموقراطي يحترم نفسه يجب فصل الدين عن الدولة لضمان الحرية الفردية للمواطن. فالدين ليس وسيلة لخدمة مصالح فئات سياسية كالأحزاب الدينية التي تحاول فرض هيمنتها واملاءاتها بالقوة في حين انها لا تشكل الأغلبية. وفي هذا الخصوص لا يمكننا ان لا نعرّج على قول جبران خليل جبران " والدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ غيرُ الألى لهمُ في زرعهِ وطرُ".
وعليه تنبع الضرورة الملحة لسن قانون "الزواج المدني" بحيث يكون موحدا لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية يواكب العصر ويساوي بين الرجل والمرأة دون تمييز في الحقوق والواجبات وتكون صلاحية البت فيه للمحاكم المدنية فقط بموجب قوانين علمانية ملائمة للعصر ومتطلباته، وذلك دون الغاء الزواج الديني وصلاحية المحاكم الدينية للبحث في القضايا التي تتعلق بالزواج الذي عقد بموجب طقوس دينية كما هو الحال اليوم ، فمن يريد الزواج الديني فله ذلك ومن يريد الزواج المدني فيجب ان يكون له ذلك ايضا، وبهذا يكون قد طبق النظام الديموقراطي بحذافيره.
ختاما اناشد أعضاء البرلمان وجميع الجهات المسؤولة أن تأخذ الأمر على محمل الجد والعمل على سن قانون الزواج المدني وذلك دون الغاء الزواج الديني ليتسنى للمواطن الاختيار الحر الذي يساهم في التعايش المشترك وفي بناء مجتمع حضاري راق نصبو لتجسيده على ارض الواقع. فمن أبجدية الحياة، ولا سيما في الأنظمة الديموقراطية والعلمانية أن يكون الزواج اختياريا يتماشى مع ميول وطموحات الإنسان ولا يشكل فرضا عليه، من منطلقات شتى منها الدينية، السياسية والموروثات الاجتماعية، العرقية وغيرها.
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48
2024/10/10 18:36