يوم الارض هو الحدث المؤسس والمفصلي بعد العام 1948. ويقاس هذا الافتراض اذا ما قارنا بين أثر يوم الارض وأي حدث اخر، وفي التحولات في المسيرة النضالية الطويلة غير المتوقفة التي تخوضها جماهير شعبنا وكذلك في مسيرة التغيير الاجتماعي.
حدث مفصلي بمفهوم أن كل التطورات في مسيرة جماهير شعبنا في الداخل حتى اليوم، متأثرة بيوم الأرض سواء في تراكم الوعي الوطني والاجتماعي وتجلياته أم في مجمل الانجازات. وكذلك في نشوء اجيال متعاقبة على قيم هذا الحدث.
حدث مفصلي بمفهوم التحول عظيم الأثر في وعينا لذاتنا كجماهيرعربية فلسطينية انتقلت بشكل قطعي من مرحلة الدفاع عن البقاء في طورها الأول والتي ميزت مرحلة الحكم العسكري في الخمسينات واوائل الستينات وانتقالها الى مرحلة المواجهة والنضال لاستعادة الحق والدفاع عما تبقى وبالذات التصدي الشعبي الواعي والمنظم لمصادرة الاراضي وتهويدها وبشكل خاص في الجليل.
إنه حدث مفصلي بمفهوم أنه تزامن مع تحولات في البعد الشعبي للعمل النضالي سبقتها تحولات عميقة في البنية الاجتماعية اتت نتيجة عدة عوامل فلسطينية واسرائيلية وعربية وعالمية وبالذات مصادرة الاراضي وهدم البنية الاقتصادية للعائلة العربية وكذلك نتيجة تبلور حركة التحرر الوطني الفلسطيني وحالة النهضة التي شهدتها وأثرها على الداخل. لكن ما كان لكل ذلك ان يتفاعل لولا وجود قوة سياسية منظمة تقود هذا العمل. فكان الحزب الشيوعي صاحب الوزن المركزي والحاسم والقائد وكانت قوى تركت أثرها ولا تزال على مجمل الخطاب السياسي وبالذات ابناء البلد في مرحلة التأسيس وكذلك حركة الارض التي كانت محظورة.
على المستوى الفلسطيني العام والعربي والدولي، فقد وضع يوم الارض خارطة النضال الوطني الفلسطيني هذا الجزء من الشعب الفلسطيني الذين غدوا في العام 1948 مواطنين في اسرائيل التي قامت على انقاضهم وانقاض شعبهم ، وبالأحرى جرى الاعتراف بهذا الدور. لقد وجد هذا الاعتراف واعادة الاعتبار تعبيرا عنه في إقراريوم الارض في المجلس الوطني الفلسطيني ربيع 1977 ومن ثمّ اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يوما كفاحيا للشعب الفلسطيني ليتحول الى حدث عربي وألى يوم للتضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني.
كما يمكن النظر الى مفصلية يوم الارض بما نشهده اليوم من انجازات ومن نهضة ثقافية وعلمية وطاقات مهنية، يصعب تصورها لولا يوم الارض، انها ليست نتاج اليوم فحسب بل نتاج ذاك اليوم وما يمثله من ذروة نهضة كفاحية تاريخية وكل التراكمات بلوغا الى اليوم. إن انجازات الشعوب ليست نتاج طفرة بل هي مردود مراكمة طويلة لانجازات وقدرات يجري بناؤها رويدا رويدا. حتى الثورات هي نتاج تراكمات وليست نتاج لحظة.
لقد شكلت اللجنة القطرية للدفاع عن الاراضي واللجان المحلية في البلدات العربية العنوان القيادي ليوم الارض، كما وشكّلت نموذجا متطورا للتنظيم الجماعي الوطني المرجعي والطوعي، وشكّلت حالة استقطاب لكل القوى المعنية بالدفاع عن الارضش حتى تلك التي سارت طيلة سنوات الحكم العسكري تحت سطوة الاحزاب الصهيونية لتنسلخ عنها وتنضم للصف الوطني، وهذا بخد ذاته تحوّل ممكن رؤيته فقط حين تكون قوى الحرية والقوى الوطنية في حالة نهضة وانتصار، فكانت نوعا من "التوبة" الطوعية وبالاحرى القناعة بأن الرهان هو على الشعب وليس السلطة. لتشكل لجنة الدفاع عن الاراضي الاطار الجامع للقوى الشعبية المعنية بمعركة الارض والدفاع عنها واسترجاعها.
الى جانب اللجنة القطرية للدفاع عن الاراضي، ظهر في تلك الحقبة وقبلها وفي اعقابها عدد من المؤسسات التمثيلية القطاعية والتي أسهمت في جهود يوم الارض وانجاحه، وأذكر الحركة الطلابية العربية المنظمة في الجامعات الاسرائيلية ممثلة بلجان الطلاب العرب والاتحاد القطري وهي تجربة تحتاج الى حيز كتابة وتحليل واسعين، وكذلك اللجنة القطرية للطلاب الثنويين العرب ودورها على مستوى الشبيبة والتأثير في وعيها وتمردها على سطوة فرض الهوية الاسرائيلية على ذهنية الشبيبة العربية الناشئة.
كما شهدت السنوات التي تلت يوم الارض مساع لتنظيمات قطاعية تعنى بالخدمات والابحاث وبلورة السياسات وكان ابرزها لجنة متابعة قضايا التعليم العربي، واتحاد الأكاديميين في الناصرة ولجان قطرية لمتابعة قضايا الخدمات الاجتماعية والصحة والأوقاف.
في حين أن المؤسستين الأكثر أثرا وثباتا كانتا اللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية العربية، التي وإن كانت تأسست بايعاز من مكتب رئيس الحكومة الاسرائيلية وأحد أدوارها كان الحيلولة دون اضراب يوم الارض 1976، الأ ان أجواء يوم الارض عصفت بالمخطط الحكومي وفي الانتخابات البلدية عام 1977 كما ذكر، جرى قلب موازين القوى فيها وتحويلها الى هيئة تعمل بروح العمل الوطني ويوم الارض وتبنت شعار بلدية الناصرة في حينه: "كرامة وخدمات". وفيما بعد تحوّلت الى مركّب اساسي في لجنة المتابعة العليا اضافة الى الاحزاب والحركات السياسية ولا يزال دورها جوهريا. لتبقى لجنة المتابعة العليا الاطار القيادي الجمعي للجماهير العربية الفلسطينية في الداخل ولا تزال تشكل الكيان التنظيمي لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني.
وعليه وللإنصاف التاريخي كما أراه واعتقد، كان من الظلم الادعاء التَأريخي والمحاججة التي يجري تكرارها بأن قيادات يوم الارض خافت بعد يوم الارض 1976 من نجاح هذا الحدث المفصلي وتراجعت. إن ما جرى بروح يوم الارض كان معركة ردعت سياسة الدولة بمواصلة تهويد الجليل، كما وشكلت بداية كسر سطوة هيمنة الجهاز الترهيبي للدولة والاحزاب الصهيونية والذي عكسته نتائج الانتخابات البرلمانية والبلدية عام 1977، والتحول الكبير في السلطات المحلية والتي تأثرت ايضا بانتخابات بلدية الناصرة عام 1975 والتي شكلت تحوّلا غير مسبوق في انتصار جبهة الناصرة بقيادة طيب الذكر توفيق زياد. كان ينبغي ان يستكمل الانجاز الشعبي العظيم بالانتقال الى ملاءمة تنظيم المجتمع له، وأتت وثيقة السادس من حزيران 1980 بداية مأسسة تاريخية وبصيغة رؤيوية لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني ضمن الرؤية الواسعة للشعب الفلسطيني التي تجسدت في م ت ف في مرحلة النهضة الوطنية التحررية الفلسطينية. وكانت الوثيقة هي الاساس لمؤتمر الجماهير العربية الذي حظرته بأمر إداري دولة اسرائيل ممثلة برئيس حكومتها مناحيم بيغن، وشكلت ولا تزال السقف الجماعي الذي سارت عليه لجنة المتابعة العليا بصفتها الاطار الكياني لجماهير شعبنا في الداخل. والتي تقود العمل الجماعي بما فيه احياء الذكرى السنوية ليوم الارض ورغم مواطن الضعف فلا زالت تقوم بدورها القيادي وبروح يوم الارض.
شكّلت وثيقة كينغ التي تحمل اسم يسرائيل كينغ حاكم لواء الشمال في حينه، صوت اسرائيل وجوهرها، وهي وثيقة رؤيوية صهيونية استيطانية لا تزال روحها مسيطرة. لقد دعت الى تهويد الجليل ومصادرة الاراضي وتشجيع العرب للهجرة من البلاد وملاحقة "المتطرفين" وقلب الميزان الدمغرافي في الجليل. وكان الكشف عنها وفضحها مهمّين في بلورة رؤية الجماهير العربية وفي وضع المعادلة بأن أي حق سيبقى غير ممكنا الا اذا ناضلنا من أجله وتحقيقه بقدر ما نناضل من أجل اكتسابه.
إن مصادرة الاراضي والتهويد ما كانتا يوما زلّة سياسةٍ حكومية بل يتجذران عميقاً في جوهر الفكر والمشروع الاستعماري الاستيطاني العنصري، وفي المقابل ما كان يوم الارض استثناءً في حياة جماهير شعبنا بل هو في جوهرها موقفاً ونهجاً وثقافة سياسية.
في هذه المعادلة نُقِيم ومنها ننطلق كما دائما في مواجهة المصادرة والهدم والاقتلاع والتهويد، وفي مواجهة المخططات التصفوية لحقوق شعبنا، وبالذات في مناهضة "صفقة القرن" وتطبيق جوهرها على ارض الواقع، من احتلال واستيطان وضمّ ومصادرة وهدم وتهويد وقوانين ممارسة واحتلال روايتنا التاريخية.
في مثل هكذا مواجهة صعبة وقاسية تبقى الحاجة الى بوصلة تدلنا على الطريق، ويوم الارض حاضر فينا دائما.
29/اذار/2020
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48