يبدأ الناس بالتوافد أفواجاً أفواجاً على إحدى القاعات أو الساحات العامة، تلبية لدعوة تلقوها أو لدعوة عامة حظيت باهتمامهم، يتكبدون مشقة التنقل والسفر أحياناً وتجاوز أزمات المرور واحتشاد الجموع الغفيرة أحياناً أُخرى.
تتزاحم الأقدام والأكتاف حتى يأخذ كلٌّ مكانه، والأنظار مشدودة إلى افتتاح الحفل أو المؤتمر أو المناسبة التي احتشد الناس لغايتها، وبعد طول انتظار سيما وأن العالم العربي ومجتمعاته قلّما تفي بوعدها المضروب والساعة المحددة لبدء فعاليات اللقاء.
تستجد فقرات وتحذف أُخرى ويطرأ على البرنامج ما ليس منه، مجاملة لفلان الذي حضر دون اتفاق مؤكد ومراعاة لمشاعر فلان الذي لم يكن يتوقع أن يكون الحشد كبيراً ، فلم يضع في حسبانه أن يشارك بكلمة، ولكن لأن الانتهازيين لا يفوتون فرصة إلا ويقتنصونها فإنه يفرض نفسه الثقيلة على فقرات البرنامج فالفرصة لا تعوض والموقف لا يتكرر وبسبب علاقة تربطه بمنظمي الحفل وبعد أن يخبرهم بأنه قرر التبرع – ليس من تركة أبيه حتماً – فإنه يتربع على المنصة ويرغي ويستفرغ محتوياته التي لا قيمة لها سوى تمثيل الوصولية والانتهازية.
يتحمل الحاضرون هذا كله ونماذج منه لا حصر لها، ولكن حينما تبدأ فقرات الحفل تشعر بأن الناس والقائمين على الحفل الذين تعبوا في التحضير له والتخطيط المتواضع غالباً لفقراته ينزوون جانباً لتبدأ الكلمات بمخاطبة الذوات...
الذوات التي هي ذوات في نظر المتكلمين وليس في نظر المجتمع:
حضرة السيد
عطوفة الأخ
فخامة رئيس بلدية كذا وهو طبعا بمؤهل علمي رابع ابتدائي غير مكتمل
معالي المناضل ونضاله طبعاً كان في صفوف حزب العمل أو الحركة الصهيونية الأُم
سعادة السيد ... وهو نموذج كآبة ليس للسعادة إليها من سبيل....
وهكذا دواليك حتى يخاطب جميع المتنفذين الذين يستولون على مواقع فيها المصالح والمنافع والمكاسب.
وجميع الجالسين الذين يمثلون فئات المجتمع يتحولون إلى ( كومبرس) لا دور لهم ولا يحتلون مكاناً في خطابات المتكلمين إلا في الدعاية الانتخابية فهناك فقط تتحول الجماهير إلى صفوة البشر ونخبة الأُمة وطليعة المجتمع وقوام المستقبل المنشود ...
الجماهير التي تختزل في كلمتين في المناسبات العادية: الأخوات والأخوة
أو: السيدات والسادة
أو: الحضور الكريم
في الدعايات الانتخابية فجأة وبقدرة قادر يتحولون إلى نخبة من البشر الاستثنائيين الذين يليق بهم الخدمة ونيل الحقوق وتبوء صدارة المشهد.
إنه نفاق على مستوى النخبة التي انتخبت بالزور والكذب والتدليس والمال الأسود وبدعم من النعرات العائلية والقبلية والفئوية والحزبية المقيتة.
في يوم عادي يتصدر الخطابات أصحاب الكروش أهل القروش عبدة العروش، وكل الجالسين لا قيمة لهم وكأنهم لازمة من الديكور والتصميم الواجب ليكون للصوت صدى
أيها الخطباء والوجهاء:
إن الذين تتجاهلونهم في توجيه الخطابات في الأندية العامة والمناسبات الجامعة هم المجتمع وهم الجذور التي استعصت على الاقتلاع والتهجير والتهويد.
في هؤلاء أُناس رفضوا البيع طواعية للوكالة اليهودية بملايين الدولارات يا من بعتم أنفسكم بثمن بخس دراهم معدودة...
في هؤلاء من سلخ زهرة شبابه في السجون لرباطه ودفاعه عن الأرض والأقصى والقيامة والبشارة والصخرة المشرفة وأنتم تتبادلون الأنخاب مع أبناء العمومة ...
في هؤلاء من كدح مع العمال في الأشغال الشاقة لبناء بيته وأُسرته يوم كنتم تعتاشون على الرشوة والتكسب من المنصب العام والتوظيف المسيس والموجه...
في هؤلاء من كان وقوداً للمظاهرات في المناسبات الوطنية والأحداث العامة يوم كنتم وعائلاتكم الكريمة تصيفون في جزر الآزور واليونان وقبرص...
متى سيخجل المتصدرون للمشهد من نفاقهم؟
متى سيتذكر أُولئك بأن الوطن هو الإنسان... الإنسان الذي يتجاهلونه في المناسبات ويتخلون عنه في الشدائد ويتاجرون بقضاياه وأحواله عند التكسب؟
هل أنتم أفضل من الرسل والأنبياء الذين اصطفاهم الله واختارهم واجتباهم فقد كانوا لا يميزون بين الناس إلا على أساس التقوى ويجعلونهم سواسية وقد ولدتهم أُمهاتهم أحراراً متساوين في الكرامة الإنسانية من حيث المبدأ؟
في الدول المتحضرة بدأوا يسمون عامل النظافة مهندس نظافة ويربون أبناءهم على هذه القيم وأنتم ما زلتم تحتقرون الجماهير والشعب والأُمة وتنافقون للمتنفذين في المال والمنصب وكله إلى زوال...
تمجدون الذين نخلهم الفساد من النواصي إلى أخمص القدمين على حساب الشرفاء، من أجل ماذا؟
إن ذروة المصيبة أن تخرج الشهادة للفاسدين المفسدين من أفواه أُناس يُعتدُّ برأيهم ويؤخذ بقولهم وتتأثر الناس بهم كالذين يتصدرون العمل الديني والدعوي والإسلام السياسي أحياناً
حينما يشهدون لأحد بالنضال والإخلاص فماذا ينتظرون عند الله غير أن يأتوه شاهدي زورٍ؟
2024/11/05 16:34
2024/10/27 21:33
2024/10/14 13:58
2024/10/11 10:05
2024/10/10 20:48