هذه المصطلحات الشائعة تزعجني بحق، مثل: "كرامة الفلسطيني" او "تحسين شروط حياة الفلسطينيين" او "خطوات احادية الجانب" او "اجراءات ملموسة من اجل ابقاء حل الدولتين قائم". هذه المصطلحات المدوّرة، الزلقة، الضبابية، والاحتمالية، لا تخيفني فقط بل صرت أرى فيها وعيا سياسيا مقصودا للالتفاف او التهرب او الخشية من وصف الاحتلال وادانته ومحاصرته.
صرت ارى فيها تعزيزًا وتكريسًا للاحتلال ورضى عنه، أي ان هذه المصطلحات لا تريد ان تقول ان هناك احتلالاً استعماريًا طاردًا يتم فيه عملية نفي للشعب الفلسطيني عن ارضه، وليس هذا فقط وانما يتم إنزال الشعب الفلسطيني عن الخارطة السياسية والمشهد التاريخي.
ان نجاح ظاهرة القتل في المجتمع الفلسطيني داخل مناطق 1948 وعدم توقفها بل واشتدادها بهذا الفجور وهذا السفور، حتى صار القتل يجري امام الكاميرات، يعني ان الاجهزة الحكومية في اسرائيل ومن يقف وراءها يحوّل هذه الظاهرة المتعمدة الى عصا غليظة للتحكّم ولإجهاض القوى الحيّة وضرب احتمالات التوحّد او تغيّر الاتجاه.
ويبدو ان اسرائيل تنقل التجربة بشكل او بآخر الى الاراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967. فما رأيناه مؤخرًا في عدد من المواقع في الضفة المحتلة يجعلنا نضيء عشرات آلاف المصابيح الحمراء امام كل قوانا السياسية والمجتمعية لوقف الظاهرة ووأدها قبل استفحالها.
ان أحد أهم اسباب فشل الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 هو الشقاق العائلي والانقسام الحمائلي وضياع الولاءات واختلاف التحالفات.
وأعود الى اسرائيل ورؤيتها الأخيرة للصراع الاسرائيلي الفلسطيني. فاسرائيل فعليًا تسقط من حساباتها وجود الشعب الفلسطيني وتتصرف على هذا الاساس من خلال ما يلي:
أولاً: انها تريد ان تحرم الفلسطينيين من حق النقض من اي اتفاق تطبيعي مع كل جهة عربية، باعتبارهم وجودًا لا اهمية له وغير مسؤولة عن حياته او مستقبله.
ثانيًا: انها تريد اعادة انتاج الاحتلال بما يضمن عدم وجود دولة فلسطينية من جهة وخضوع الشعب الفلسطيني التام للترتيبات الامنية الاحتلالية من جهة ثانية، اي انها تحاول اعادة انتاج وضعين في آن واحد: شرعنة الاحتلال من جهة وصياغة ديموغرافية جديدة للشعب الفلسطيني، من جهة ثانية، وهو ما تحاول تمريره في كل خطة او مبادرة اقليمية او دولية.
ثالثًا: أوقفت اسرائيل التفاوض مع الشعب الفلسطيني منذ عام 2012 بحجة غياب الشريك، وهو مصطلح يجد قبولا لدى أطراف كثيرة، معناه عدم وجود شعب أصلاً ليتم التفاوض معه. ولا يخفى على أحد ان وقف التفاوض بهذه الحجة هي نية علنية اسرائيلية على عدم الرغبة في تقديم ما تسميه اسرائيل "تنازلات". وبالمناسبة فان اسرائيل فرضت على العالم فكرة انها تقدم تنازلات وكأنها تقطع من لحمها الحي ونسيت ان عليها تقديم استحقاقات لأنها قوة احتلال.
رابعًا: توقف الضغط الدولي والاقليمي الى حد كبير على اسرائيل للدخول في تسوية مع الشعب الفلسطيني كله، بل تحولت المطالبات الخجولة الى ما يسمى بـ "اعادة التهدئة وتحسين الشروط الحياتية".
خامسًا: لا يتم الكلام عن انهاء الاحتلال بل يتم تسويغه والتكيّف معه، وعمليات التطبيع المختلفة تقوّي هذا التوجه ايضًا، بمعني ان التطبيع في مجمله لا يشترط انهاء الاحتلال، ومن هنا خطورة نفي الفلسطيني مقابل دمج الإسرائيلي.
ان بقاء الاحتلال على الارض الفلسطينية سيمنع ميلاد دولة فلسطينية حرة ومستقلة، وما يعزز هذا الاتجاه ان شعار حل الدولتين أصبح شعارًا يخفي تحته الكثير من الوقائع التي تنسفه تمامًا وتحوله الى أحلام.
سادسًا: من عام 1967 وحتى اليوم تغيّر مفهوم التسوية، فمن تطبيق قرارات الشرعية الدولية الى الارض مقابل السلام الى اقامة سلطة تحت احتلال الى تمرير الاحتلال وشرعنته من خلال عمليات الاعتراف والدمج وصولا الى انكار وجود الدولة والشعب الفلسطيني. والكلام الآن فقط يدور عن جماعات فلسطينية متفرقة متعادية ومتقاتلة لا تحتاج الا الى صياغات امنية واقتصادية محكمة بحل مشاكلها وضبط أمورها.
هذا هو الحال برأينا، أما الحل فلا يخفى على عاقل.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34