نشرت في العام 1985 قصة قصيرة بعنوان "الحامولة" بمجلة الفجر الأدبي التي كان يرأس تحريرها المرحوم علي الخليلي، تتحدث عن حامولتين نشب بينهما خلاف شديد سببه شجار بين طفلين. تطور الخلاف بين الحامولتين واشتد الى درجة أن افراداً من الحامولتين حصل على أسلحة من المحتل، فسقط قتلى وانقسمت القرية الى نصفين، لكل منهما طريق، طريق أحد الحامولتين يمر عبر المستوطنة وصولاً الى الشارع العام.
هذه القصة نشرت عام 1985 موقعة باسمي المستعار حينذاك "فكري خليفة"، وقد كتبتها على أثر خلاف عائلي كنت شاهداً عليه وانتهى نهاية مأساوية حقاً.
والحامولة، كما هي اشكالها وادوارها وتأثيراتها في مجمل التاريخ الفلسطيني الحديث على الأقل، كان لها تأثير كبير في تماسك المجتمع والحفاظ على الهوية الثقافية، كما اظهرت الحامولة قدرة ملحوظة في البقاء والصمود، ولعبت ادواراً هامة في عمليات الضبط الاجتماعي والقيمي.
وفي غياب المؤسسات الجمعية الكبيرة فقد قامت الحامولة الفلسطينية بملء الفراغ، فتحولت في لحظة ما، ربما ما تزال مستمرة، الى ان تكون السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في آن معا.
تتميز الحامولة بقدرتها على الترميم والاشفاء والتواصل وصد الصدمات وتحملها والتكيف معها والحفاظ على هوية عميقة ذات مستويات متعددة.
ولكن هذا كله لا يشكل الصورة الكاملة، فعلى الرغم من ان هذه الحامولة التي قامت بأدوارها وما تزال، الا انها تملك جانبا فيه كثير من السلبيات وخصوصاً في حالتنا الفلسطينية. فما أن خرج العثمانيون من بلادنا ووقعت تحت براثن محتل مجرم هو المحتل الانكليزي، فان الحامولة الفلسطينية هي من تولت الاشتباك معه. وحتى عندما شكلت هذه الحمائل احزابًا، فقد ظلت احزابًا حمائلية. وقد ذكر باحث فلسطيني ذلك بقوله ان ابناء العائلات واجهوا ابناء الامبراطوريات.
توضيحيةالأساس الحمائلي للنضال ضد المحتل الانكليزي سهّل لهؤلاء ان يلعبوا تماماً على التناقضات الحمائلية المتمثلة بالمجد والنفوذ في وطن محتل، وعندما ثار الشعب الفلسطيني في العام 1936 في ثورة من أروع وأطهر الثورات، فان المحتل الانجليزي المجرم استطاع ان يخمد تلك الثورة بأساليب متعددة من أهمها الانشقاقات والتناقضات الحمائلية. وهي خلافات لم تتوقف يومًا للأسف، فقد شهدت بلادنا كثيرا من هذه المعارك التي كان يتم فيها ترحيل كلي او جزئي للحامولة وحرق لمنازلها وحقولها ومحاصيلها، فضلاً عن قتل الرجال او اختطاف النساء، وكان على تلك الحمائل ان تتشرد في البلاد، تتخفى بأسماء جديدة او تلطي تحت حمائل اكبروأقوى، وهكذا فان المعارك بين الحمائل التي استغلت من قبل قوى مختلفة – بما فيها المحتل وغير المحتل - أدت الى تراجع النمو والتقدم والعمران.
يمكن القول ان انتصار المشروع الصهيوني – ضمن اسباب أخرى - يعود أيضاً الى ان المجتمع الفلسطيني لم يستطع ان يبلور تمثيلاً كليًا جامعًا للأهداف والمطالب، الأمر الذي عزّزته أطراف كثيرة لتفكيك شعبنا واعتباره مجرد حمائل أو طوائف أو جماعات. واستغلت الحركة الصهيونية ثم اسرائيل فيما بعد الصراعات الحمائلية لتعزز سيطرتها السياسية الأمنية على مفاصل المجتمع الفلسطيني.
كان ذلك في مناطق 1948 ومناطق 1967 فيما بعد، فمنذ اللحظة الأولى للاحتلال عام 1967 بحثت اسرائيل عن قيادات حمائلية لتعزيز حضورها ولتكون بديلاً أو خصمًا للفصائل الفلسطينية. وادّعي هنا ان الحركة الوطنية الفلسطينية استطاعت هزيمة المحتل في هذا المسعى فترة من الزمن، كانت فيها الحركة الوطنية قوية وقادرة على تقديم الاجابات السياسية والاجتماعية، وهو ما رأيناه، ايضاً في مناطق 1948 عندما تمت ازاحة القيادات التقليدية واستبدالها بقيادة سياسية حزبية وذلك في اوائل الثمانيات تقريباً.
ومع تآكل الخطاب القومي والوطني وهبوط السقوف وانهيار الافكار، وضعف الفصيل وتغوّل المحتل بأدواته وأساليبه، تعود الحامولة الى المشهد. فالحمائل تغلبت أو ابتلعت او ذوّبت الفصائل لأنها – كما تعتقد – الأقدر على تقديم الحلول والأسرع في فرضها والأضمن في ادامتها ايضاً.
ما نراه اليوم في مناطق 1948 ومناطق 1967 أيضاً، من تعمّق الخلاف الحمائلي وانتشاره، انما هو انعكاس للانقسام الرأسي الذي اصاب النظام السياسي الفلسطيني وللأزمة العميقة التي يمر بها الفصيل الفلسطيني ولحالة الارهاق والضعف العام الذي تمر به الأمة. اذ تعود الحامولة وكما كانت في السابق الملاذ والحامي في غياب مؤسسات النظام السياسي الجامعة، فهي تحمي وتأخذ الحقوق وتفرضها.
المعضلة هنا، ان التشكيل الحمائلي هو نكوص عن شكل الدولة ومضمونها، وهو ما يُغري المحتل منذ زمن بعيد للقول ان الشعب الفلسطيني لم ينضج بعد لتشكيل دولة أو تأسيسها، وان استمرار الخلاف الحمائلي وتجذّره وحضوره كبديل عن المؤسسات الرسمية التمثيلية كفيل باحتجاز الدولة ومفهومها. فالحامولة كتنظيم اجتماعي تقدم بديلاً عن التنظيم السياسي. وهكذا، وبدلاً من الانتماءات الكبيرة، نعود الى انتماءات صغيرة متعادية ومتحاربة ومستعدة للانتحار من اجل الحصول على حماية، اي حماية من أي طرف.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34