وقد ذكرها وزير الحرب الأمريكي، لويد أوستن، في معرض نصائحه لاسرائيل، وليس في معرض الدفاع عنا او عن حقوقنا، بل هي عصارة التجارب الامريكية الاستعمارية، حيث ان الاضرار بالشعوب و التنكر لحقوقها و وجودها يقود الى تطرف يتوالد ويتعاظم جيلاً بعد جيل.
فاحتلال افغانستان وتقسيمها واثارة النعرات الطائفية فيها ادى فيما ادى الى ظهور حركة طالبان بكل تجلياتها و تقلباتها وصولاً الى سيطرتها التامة على افغانستان في صورة نادرة من صور التاريخ العجيبة، كما ان الحربين الامريكيتين على العراق على مدى عشر سنوات تقريبًا انتجتا ضمن أمور أخرى القاعدة ثم داعش، وهما نسختان من قراءة للاسلام فيها وعليها جدل طويل و عميق. كما ان ميلاد الحركتين وتمويلهما و تحولاتهما تثير كثيرًا من الاسئلة، ولكن الحركتين - و رغم كل ما قيل او يقال - كانتا نتيجة تدمير المجتمع العراقي وتدمير مقدراته وتهجير نخبه ورؤوس امواله وتغيير ديموغرافيته وتفكيك نسيجه المؤتلف منذ مئات السنين.
كما أن غزو لبنان في الثمانينات اخرج حزب الله تعبيرًا عن رغبة الشعوب في التحرر والرد على الاستلاب و التغريب و الاحتلال، و هو ما حصل عندنا ايضا. فظهور حركة حماس - بنسختها التي قادتها الى الاشتباك مع المحتل - كان مرتبطًا بالاجراءات الاسرائيلية منذ الانتفاضة الاولى سنة 1987 و حتى يومنا هذا. وهذا كله يعيدنا الى ما قاله وزير الحرب الامريكي، لويد اوستن، ان الاضرار بالمدنيين قد يحقق نصرًا تكتيكيًا سريع المدى، ولكنه يحمل معه بذور هزيمة استراتيجية بعيدة المدى تماماً.
فالقوة العسكرية الغاشمة قد تحقق نتائج سريعة، وقد ترضي نزعة انتقامية تعصف بالرأس والقلب، وقد تشبع جمهورًا متعطشًا للرد والتنكيل، وقد تساعد في انجاح هذا الحزب او ذاك او صعود هذا الزعيم او ذاك، ولكنها على المدى الطويل ستؤدي الى مزيد من الكراهية والحقد وتأسيس اسباب جديدة لجولة اخرى من الاشتباك قد تكون اكثر حدة و شدة وفتكًا.
الهزيمة الاسترتيجية التي اشار اليها وزير الحرب الامريكي هي ان هذه الألوف من الضحايا الفلسطينية ستكون سببًا وجيهًا و مستمرًا لعدم القدرة على التوصل الى تسوية، وقد تشكل هذه الضحايا سدًا منيعًا امام اقامة علاقة طبيعية مع اسرائيل على مدى العقود القادمة، وستكون صورة لا يمكن محوها او رفعها من ذاكرة شعوب المنطقة، خصوصًا انها ترافقت مع موجات عالية من العنصرية والكراهية، الى درجة ان قائدًا علمانيًا أبًا عن جد يتحول الى زعيم روحي يريد تطبيق ما ورد في سفر اشعيا عن التعامل مع ابناء العماليق.
لم يجد هذا الزعيم سوى النبي اشيعا لاستعارته في هذه الحرب، و للمفارقة فان هناك من علماء الملسمين من رأى في سفر هذا النبي تمهيدًا ووصفًا لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم و صحبه الغر الميامين.
على أية حال، وبعيدًا عن ذلك، فان استعارة النبي اشعيا و استخدامه من قبل زعيم يسلم رقبته ومستقبله ومستقبل كيانه لمتطرفين لا لشيء الا من اجل بقائه في منصبه، يعني اننا امام جيل جديد من قادة اسرائيل الضعفاء الذين لا تهمهم الهزيمة الاستراتيجية بقدر ما يأملون او يحلمون بتحقيقه من نجاح سريع لا يدوم.
برأيي ان ما قصده أوستن بالهزيمة الاستراتيجية، في معرض نصائحه لاسرائيل التي يقودها زعيم علماني يتلطى وراء نبوءة اشعيا من جهة ووراء الدفاع عن الليبرالية الغربية من جهة اخرى، انما يقصد ضمن أمور أخرى ان تدمير او تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة سيقود الى ميلاد حركات فلسطينية اخرى اكثر قوة وتجذرًا وحنكة ومستعدة ومجهزة بأساليب ومضامين اخرى. اذ لا يمكن لمجتمع بشري يقبل ان يشطب من سجل الأسرة الدولية ويحجب عن الوجود لمجرد ان مجموعة بشرية اخرى ارادت ذلك. لا يمكن لمجتمع له جذوره وتاريخه وسردياته وروحانياته ومشاركاته الحضارية والانسانية ان يقبل ان يتم فصله عن شروط الحياة الكريمة بحدودها الدنيا، ولا يمكن لشعب يحترم دماء اجداده ان يقبل ان يعيش في ذل دائم و عبودية متواصلة.
الهزيمة الاستراتيجية هي ان يتم نسيان او تناسي هذه المبادىء الاساسية في التاريخ.
وزير الحرب لويد اوستن قدم لاسرائيل نصيحة ذهبية بالمجان، و من الواضح ان اسرائيل لم تستمع اليه على الاطلاق، وقد قيل ان النصيحة كانت قديمًا تشترى بجمل، اما اليوم فهي لا تشترى بدجاجة على ما يبدو.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34