الخطاب المتناقض الصادر عن الولايات المتحدة فيما يتعلق بالحرب المجنونة على قطاع غزة، يجبرنا على القول إن الولايات المتحدة فشلت في جهودها لتصوير نفسها حامية الحقوق والديمقراطية والسلم الدولي، وإنها فشلت في عدم توسيع الصراع، وإنها فشلت في لجم إسرائيل أو ترشيدها أو عقلنتها، وإنها فشلت في ان تكون وسيطة او راعية أو مشرفة للملمة هذا الجنون المتواصل دون نهاية.
الأمر لم يقتصر على الخطاب الإعلامي فقط بل ترجم طيلة الوقت الى مواقف علنية وسرية جعلت من أمريكا بنظرنا وبنظر العالم شريكة في القرار والتنفيذ والإطار والنتائج، وللحقيقة فإن من المحرج ان نرى أكبر دولة في العالم تغرق في تبريرات غير مقنعة حتى لطفلٍ في العاشرة، وأن نراها وهي تتبنى مقولات غير صحيحة وتدافع عن إجراءات او ممارسات غاية في البشاعة، وكأننا نشهد الأيام الأخيرة لسقوط امبراطورية كبرى لا تستطيع ان تقدم رؤية عالمية مقنعة أو سياسة متوازنة قادرة على ضبط السلم العالمي أو أن تنحاز الى معاناة الشعوب ومطالبها العادلة.
إذ لا يمكن لأمريكا ان تدعي أنها تريد الحفاظ على دماء الفلسطينيين فيما لا تدعو الى وقف نار دائم، ولا يمكن ان نصدق عمليات الانزال الجوي بينما هي تستطيع ان تدخل المساعدات من البر، ولا يمكن لنا ان نصدق دعوتها الى حل دولتين وهي لا تعترف بالدولة الفلسطينية، ولا يمكن لنا ان نصدق ترحيبها بتشكيل الحكومة الفلسطينية التاسعة عشر فيما تطرح وزارة الدفاع الأمريكية فكرة إنشاء قوة متعددة الجنسيات في القطاع، ولا يمكن أيضا ان نصدق ان الرصيف الذي تنشئه على سواحل غزة لدواع انسانية كما يقال دون ان نأخذ في الحسبان الأبعاد السياسية والأمنية والديمغرافية الخطرة.
لا يمكن لأمريكا ان تلعب دورين متناقضين في القطاع، أو موقفين متعارضين في الإقليم أيضا ، فلا يمكن ان تدعو أمريكا الى دمج إسرائيل في المنطقة دون ان يحصل الفلسطينيون على دولة حقيقية ذات سيادة وتواصل وقدرة، وليس مجرد "مسار" كما يروج الرئيس الأمريكي أو "ماراثون تفاوضي" قد لا ينتهي حتى نهاية هذا القرن.
لا يمكن الحديث عن دمج لإسرائيل دون ان تدفع اسرائيل كل استحقاقات هذا الدمج وثمنه، لا يمكن لإسرائيل ان تحصل على كل الهدايا المجانية بما فيها تصفية القضية الفلسطينية وعلاقات تطبيع كاملة واحتلال فاخر بلا عيوب مدفوع الأجر.
لا يمكن لأمريكا ان تلعب دور الراغب في عقلنة اسرائيل وانقاذها من جنونها وتطرفها وغطرستها، فيما لا تملك أوراق ضغط حقيقية او لا تريد ان تستخدمها ، لا يمكن لأمريكا ان تستجدي اسرائيل من اجل التسوية فيما تقوم بسحق الاطراف الاخرى وتهديدها وحصارها وإنكار مطالبها .
برأيي المتواضع، فان امريكا بهذه السياسة المتناقضة والخطاب ذي الوجهين ستغرق اكثر فأكثر في الوحل العربي والإسلامي معا، وستجرها إسرائيل إلى مغامراتها ومقامراتها في لحظة تحول هائل في الجمهور الأمريكي على مستوى الوعي والحياة الاقتصادية والاجتماعية .
برأيي أيضا، ان أمريكا لا يمكنها ان تحاصر نتنياهو فيما تدعم اسرائيل، ولا يمكن للرئيس بايدن ان يجعل من خطابه السياسي بعيدا عن قرارات الكونغرس والقوى العميقة الحاكمة في أمريكا، لهذا فإن الخلل بنيوي وأصيل في السياسة الأمريكية التي تسقط وتتخلى عن كل معتقداتها وأفكارها ووثيقة استقلالها إذا تعلق الأمر بسياسات اسرائيل مهما كانت عدوانية أو غير مبررة .
هل من حل ؟
هل يمكن تخليص أمريكا - وربما الغرب عموما - من هذه الازدواجية البائسة؟ نعم ممكن ، وممكن جدا، فالأمر متعلق بنا نحن أبناء هذه المنطقة، اذ ان هذه المنطقة بأبنائها وشعوبها وأنظمتها تبدو وكأنها تخلت عن المنافسة أو تقديم الرؤى أو حتى الاعتراض.
تبدو هذه المنطقة في استثناءات قليلة – وكأنها تعيش ما سماه أحد المفكرين العرب القابلية للاستعمار والاستحمار والانبهار وصولا الى ذروة العار.. تناقض أمريكا ليس لإرضاء أبناء هذه المنطقة او شعوبها، وإنما بسبب داخلي ليس الا.
● الكاتب رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية - جامعة القدس
2024/08/30 09:44
2024/08/10 19:15
2024/07/23 15:01
2024/07/19 17:20
2024/07/19 16:34